مفاقس الفن ..
عندما تقول شركة ما أنها تصنع في اليوم، على سبيل المثال، خمسة آلاف قطعة من المنتج الفلاني، نقول شيئاً ما من قبيل: يا لطيف... ما هذه الدقة... هذا إنتاج كمي على مستوى... إلخ.
أما عندما يطل علينا برنامج فني ينتج، في الموسم الواحد، حوالي عشرين فناناً وفنانة، فإن أول ما يخطر على بال الشخص هو: هل يوجد أصوات جميلة بهذه الكميات الخرافية؟! من أي مستودعات يأتون بهم؟ وبدون شعور، يبدأ هذا الشخص بالإصغاء إلى نبرات أصوات الأشخاص المحيطين به في كل ثانية، ويتساءل مرة أخرى: لم أسمع طوال النهار صوتاً واحداً يستحق أن يغني خارج الحمام... من أين يأتون بهؤلاء الفنانين؟ توصاية؟!
ومن ثم يحاول، من قبيل الفضول، أن يصغي إلى أحدهم وهو يغني، وفيما يصغي إليه، يلاحظ أن فرقة كاملة من معلمي الباطون قد اجتمعت فقط من أجل تسريحة الشعر، وفيلقاً كاملاً من الطراشين قد تكافل لإنجاح الماكياج (لكلا الجنسين)، أما الملابس، أو ما يقابلها، فلا بد أن تكون خارجة لتوها (تازة) من أحدث دور الأزياء، وعلى هذا، لا بد من وجود عدد كبير من الراقصات على المسرح، ويكون الرقص عادة من النوع الذي يستثير عزيمة هرمونات معينة في الجسم، خصوصاً مع زوايا الكاميرا التي يحسبها المخرج بدقة هندسية مرعبة، أما المسرح، فهو عبارة عن كتلة هائلة من الأضواء والمنصات والدخان ومختلف أنواع الأشياء التي تتساقط من السقف، وباختصار، فإن الوصلة الغنائية من هذه النوعية هي عبارة عن سيرك (لا تعوزه الحيوانات بطبيعة الحال) لا يهدف إلا إلى شيء واحد: صرف الانتباه عن الصوت الضعيف والأداء الضعيف لهذا المخلوق الذي لا يحمل لقب (نجم) إلا بفضل أقوى أنواع الصمغ!
طبعاً لا أقصد بهذا جميع البرامج الفنية بشكل مطلق، فقد رأينا بعض البرامج الفنية التي كانت، رغم عيوب أخرى، تركز فعلياً على الموهبة والأداء والصوت الجميل وغيرها من المعايير الفنية الحقيقية، وكانت تنتج فنانين قادرين فعلاً على لفت الأسماع، كما لا أقصد أن كل من يشارك في هذه البرامج، بشكل مطلق، يثير الغثيان بصوته: لا بد من لمعات تظهر هنا وهناك، ولكن ماذا يستطيع ثوب أبيض أن يفعل وسط كومة من الفحم؟
نعم، هذه البرامج تنقسم وتتكاثر بشكل يثير الاستغراب، هناك كمية ضخمة من البرامج التي أصبحت أقرب للمداجن: تفقّس الفنانين بالأطنان... عفواً: تفقّس النجوم بالأطنان، ومنها من أصبح يعمل بالجملة: برامج تفقس لا نجوماً وحسب، بل مجرات كاملة، ولن أتحدث الآن عن مستوى (منتجات) هذه البرامج، بل سأستفتح بنقطة أبسط: إن عدد الفنانين قد يتجاوز عدد السميعة إذا تابعنا على هذا المنوال، وهذه، بالفعل، متراجحة صعبة التخيل. ماذا سنفعل بكل هذه النجوم بربكم؟
هل نحن فعلاً بحاجة إلى هذه الأعداد المهولة من الـ (فنانين)؟
هل حللنا مشاكل السكن، والبطالة، والفقر، والفساد، وحققنا التقدم العلمي المطلوب لنخرج من العصور الوسطى، وطورنا أساليب التعليم، حتى نمنح كامل طاقاتنا لدعم الفن؟
هل سيرفع هؤلاء بأصواتهم الذهبية ونظراتهم اللازوردية مستوى معيشتنا؟
هل تستطيع أروع تسريحة شعر من شعورهم الحريرية أن تخفض من سعر البطاطا في سوق الخضار؟
ماذا نفعل بهم؟ هل نحولهم إلى نفط أو سماد عضوي؟ على الأقل، هناك ما يكفي ويزيد!!
ومن ثم... هل هؤلاء فنانون فعلاً؟
باستثناء القلة القليلة الموهوبة منهم، فإنهم يتمتعون بمجموعة مشتركة ومشرفة من المواصفات:
ـ الافتقار إلى أية موهبة فنية حقيقية، اللهم إلا إن سمينا النشاز الممنهج فناً.
ـ يحملون علامات واضحة للإصابة بمرض سعار النجومية، أي يريدون أن يصبحوا نجوماً بأية طريقة ممكنة، ولمجموعة متنوعة من الأسباب.
ـ جميع الفتيات يتمتعن بحد أدنى من الصرصعة والـ (تحرر)، مع كل ما يتفرع وينتج عن هذا: تبويس مستمر - (عفوية) زائدة أمام الكاميرات - إلخ...
ـ جميع الشباب يمتعون بحد أدنى من الميوعة وتفكك المفاصل، وعلى حين أن جميع الشباب الطبيعيين يحملون الكروموزوم (واي) المميز للذكور (أتمنى أن تكون صياغة المعلومة صحيحة) فإن هؤلاء يتميزون بالكروموزوم (ياي).
حسناً، ما السبب الذي يجعل هؤلاء محط العناية والاهتمام والدعم المادي؟ السبب بسيط جداً: الربح، المادة، العملة الصعبة والسهلة وما بينهما. كيف؟
كل هذه البرامج ترعاها شركات ضخمة، وتحاول هذه الشركات أن تصنع النجوم بالقوة: تلمعهم، لا تدعهم يغيبون عن الناس لحظة واحدة، تمنحهم البريق الاصطناعي اللازم لخلق نقطة انتباه دائمة، وهكذا يتحول هؤلاء إلى مغناطيس لجلب الأرباح لهذه الشركات: الألبومات، الدعاية لمنتجات معينة، الملصقات، المجلات الفنية، وإذا أضفنا شركات الاتصالات، تصبح الأمور أكثر ربحاً: تحميل الأغاني والنغمات، الإهداءات، التصويت، وكلما ازداد عدد المراهقين المهووسين بهؤلاء النجوم، ازدادت الأرباح وازدادت إمكانية صناعة نجوم أكثر، والنتيجة واضحة: أحدهم يجلس في مكتبه وهو يراقب الأصفار على اليمين وهي تتكاثر كالأرانب في حسابه المصرفي، وجيل كامل من المراهقين الذين تحولت عقولهم إلى شيء يشبه البطاطا المهروسة، إن مجرد ظهور شاب من هؤلاء النجوم في الشارع يكفي حتى تتدافع المراهقات ليتأملنه بكل وله وكأنه أدونيس وقد نهض من بين شقائق النعمان والبصل الأخضر! وفي اليوم التالي مباشرة يظهر عدد (خاص) من مجلة فنية ما يحمل في طياته تحقيقاً صحفياً مصوراً بالتفصيل الممل عن ظهور النجم الفلاني في الشارع الفلاني، وكيف كان يلحس البوظة بنكهة الفانيليا مع الفريز، وكيف تحمل، بكل صبر وفروسية، تدافع المعجبين والمعجبات عليه، لأن جمهوره غالٍ كثيراً عليه... غالٍ إلى درجة أنه يقدر قيمته بالدولار!
كيف حدث هذا؟ كيف تحول أغلب مراهقينا إلى مهووسين؟ هناك العديد من العوامل، منها إهمال الأهل، ومنها الدعاية المستمرة التي تحولت إلى نوع من غسيل الدماغ للأجيال الجديدة، والمحاولة الدائمة للقضاء على أي شيء يشبه الفن الحقيقي، إما بطلائه بنفس الألوان التجارية الفاقعة (وهذه تحتاج إلى مقالة لوحدها)، أو طمسه إعلامياً بكل بساطة، إن أغلب من يميل إلى الموجة الحالية يفعل هذا لقلة وجود أي شيء آخر... نعم، الناس يميزون الفن الحقيقي بالفطرة، وظهور فن حقيقي بالشكل الذي يستحقه سيعيد الأذواق الفنية إلى وضعها الطبيعي، لقد رأيت مفعول الفن الحقيقي بعيني: غرفة كاملة من الشباب، يشاغبون في وقت السهرة، هدأت خلال دقيقة عندما ظهرت نجاة الصغيرة على التلفاز وهي تغني (لا تنتقد)، حفلة واحدة للموسيقي اليوناني (ياني) كانت كافية لتجعل بعض أصدقائي يعيدون النظر في معنى كلمة (فن)، ولمن لم يزل يشك، لا يمكن لأحد أن ينسى تدافع الناس من جميع الأعمار لحضور مسرحية (صح النوم) لفيروز عندما عرضت في دمشق.
قد يقول لي أحدكم: الزمن تطور، والأذواق تختلف، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، إلخ... حسناً، لا اعتراض، وكل إنسان حر، أما أن يتم غسيل أدمغة أبنائنا، وأن يتم حرماننا من الفن الحقيقي لإفساح المجال أمام من هب ودب ليغني من أجل أن يزيد ثروات أشخاص لا يعنيهم سوى الربح، فهذا ما لا أقبله، وأظن أن عدداً لا بأس به يتفق معي في الرأي، وعلى الرغم من أن هؤلاء الـ (نجوم) يثيرون القرف، إلا أنهم يثيرون الشفقة أيضاً، لأنهم تحولوا إلى مسننات ضمن آلة ضخمة لإنتاج النقود.
قد لا نستطيع أن نوقف هذه الموجة، ولكن أي شخص منا يستطيع على الأقل أن يحمي نفسه وأولاده منها، إن إحاطة الأولاد بالفن الحقيقي (وهو موجود حتى الآن)، وبعض الرعاية والانتباه، وهواية مفيدة، يكفي لبناء إنسان طبيعي ومتوازن، لا يصاب بانخفاض حاد في مستوى الذكاء كلما رأى ملصقاً لحفلة أو ألبوم لـ (فنان) لم يصل في الفن إلى مستوى بويضة ملقحة.
أما بالنسبة لمفاقس الفن، فليس لنا إلا أن ندعو أن تبتعد عنا هي ومنتجاتها، حتى تصيبها في وقت لاحق ضربة قاضية من... أنفلونزا الطيور.