وبدأت المرحلة الثانية "الواقعية" في مسيرة محفوظ منتصف الاربعينات بنشر رواية "القاهرة الجديدة" وأتبعها بعدد من الروايات الواقعية "خان الخليلي" و"زقاق المدق" و"بداية ونهاية". وقال انه انتهى من كتابة الثلاثية الشهيرة "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية" قبل قيام ثورة يوليو تموز 1952 في مصر. واعترف محفوظ بأنه تخلص بعد قيام الثورة من مشاريع روائية عن الفترة السابقة نظرا لتغير الواقع. كما سبق أن استغنى عن كتابة الاعمال الفرعونية التي خطط لها في بداية مشواره الادبي مشيرا الى أن شرط الكتابة ألا تكون جيدة فقط بقدر ما تكون ضرورية.
وتوقف محفوظ عن الكتابة سبع سنوات حتى عام 1959 بحجة أن العالم القديم الذي كان يسعى الى تغييره بالابداع تغير بالثورة. وكانت المشاريع الروائية جاهزة لكن حافز الكتابة غير موجود ثم اكتشف أن للواقع الجديد أخطاءه فكتب رواية "أولاد حارتنا" التي نشرتها صحيفة الاهرام القاهرية كاملة رغم رغم اعتراض كثير من رموز التيارات المصرية المحافظة ولم تطبع الرواية في كتاب داخل مصر الى الان.
ولكن الكاتب اللبناني سهيل ادريس نشر "أولاد حارتنا" في دار الاداب البيروتية التي يملكها وظلت النسخ تصل الى من يريد قراءتها في مصر بدون اثارة أزمات الى أن حصل محفوظ على جائزة نوبل عام 1988 فأعيد فتح الملف من جديد وصدرت عن الرواية كتب ذات طابع تحريضي منها "كلمتي في الرد على نجيب محفوظ" للشيخ عبد الحميد كشك.
وتجاوز محفوظ في الستينيات أزمة "أولاد حارتنا" بالانشغال بكتابة أعمال ذات طابع رمزي يجسد فلسفةالشك والبحث عن يقين وغاية للحياة وهي روايات "اللص والكلاب" و"السمان والخريف" و"الطريق" و"الشحاذ" و"ثرثرة فوق النيل" و"ميرامار" فضلا عن عدد من المجموعات القصصية منها "خمارة القط الاسود" و"تحت المظلة".
وسبب بعض هذه الاعمال مشاكل عارضة لمحفوظ مع نظام جمال عبد الناصر الذي توفي عام 1970 الا أنها جميعا نشرت مسلسلة في صحيفة الاهرام الحكومية كما طبعت في كتب وأنتجتها السينما وسمح بعرض الافلام بعد احتكام الرقابة أحيانا الى الرئيس عبد الناصر.
وصدرت رواية"الكرنك" عام 1974 وهي الوحيدة بين أعمال محفوظ التي تحمل تاريخ الانتهاء من كتابتها (عام 1971) واعتبرها النقاد من بين أعمال محفوظ الاقل شأنا من الناحية الفنية بعد سلسلة من الروايات الاكثر عمقا والتي انتقد فيها النظام بكثير من القسوة التي احتملها الطرفان. ويدين محفوظ في "الكرنك" القبضة الحديدية التي حاصرت المواطن المصري في العهد الناصري.
وعنها قال محفوظ فيما يشبه الايضاح لا الاعتذار انه كتبها بضمير مستريح وبمعزل عن الحملات التي حاولت أن تشوه وجه الثورة المصرية وقائدها عبد الناصر. وأضاف "لو كنت أعلم أن اخرين سيكتبون عن السجون والمعتقلات ما يشكل مكتبة كاملة ما كتبت الكرنك".
وفي عام 1977 نشر محفوظ احدى أهم رواياته "ملحمة الحرافيش" واعتبرها بعض النقاد اعادة صياغة لروايته "أولاد حارتنا" بينما رأى اخرون أنها أبرز أعماله.
ومثلت قفزات محفوظ الفنية من الرواية التاريخية الى الواقعية والرمزية والملحمية تلخيصا لسنوات من الابداع وأجيال من المبدعين فلولاه لظل الطريق غير ممهد للاجيال التالية. وحظي محفوظ بعدد من الجوائز في مسيرته بدأت بجائزة قوت القلوب الدمرداشية عن رواية "رادوبيس" عام 1943 ثم حصل عام 1944 على جائزة وزارة المعارف "التربية والتعليم الان" عن "كفاح طيبة" وجائزة مجمع اللغة العربية عام 1946 عن "خان الخليلي" وتوجت الجوائز المصرية بجائزة الدولة التقديرية في الاداب عام 1970 وعندما أقرت جائزة مبارك كأرفع الجوائز المصرية كان محفوظ أول فائز بها عام 1999.
وأشار تقرير نوبل الى أن الاعمال التي حاز عنها الجائزة عام 1988 هي رويات "أولاد حارتنا" و"الثلاثية" و"ثرثرة فوق النيل" والمجموعة القصصية "دنيا الله". وكانت المجموعة القصصية "صباح الورد" ورواية "حديث الصباح والمساء" اللتين صدرتا عام 1987 اخر ما نشر للكاتب قبل فوزه بجائزة نوبل. وبعد الجائزة ردد محفوظ أنه أصبح موظفا عند السيد نوبل في اشارة الى أن الجائزة حرمته نعمة الهدوء وجعلته موضع الاهتمام الاعلامي حيث طاردته كاميرات التلفزيون وأربكت برنامجه اليومي وغيرت عاداته في الكتابة.
وكتب محفوظ رواية "قشتمر" قبل فوزه بالجائزة ولكنها صدرت في تاريخ لاحق مع عدد من المجموعات القصصية التي صدرت في السنوات الماضية. ونشر محفوظ "أصداء السيرة الذاتية" مسلسلة عام 1992 ثم صدرت في كتاب عام 1996.
وتحت عنوان "كتاب القرن" أصدرت مجلة نصف الدنيا القاهرية ملحقا مع عددها الصادر يوم 21 فبراير شباط عام 1999 ويضم "59 قصة.. اخر ما كتب صاحب نوبل" وسبق أن نشرت بعض قصص ذلك الملحق في مجموعة سابقة صدرت عام 1996 عنوانها "القرار الاخير".
وتعرض الكاتب لمحاولة اغتيال بالسكين في أكتوبر تشرين الاول عام 1994 ولكن الشاب الذي دفعه متشددون لتنفيذ الجريمة أصاب الرقبة وترك الحادث أثره على يده اليمنى وعلى برنامجه اليومي اذ اضطر للاستجابة لالحاح أجهزة الامن المصرية فلازمه أحد الحراس لحمايته.
ولخص محفوظ رؤيته للابداع ولمستقبل الادب في حتفال نظمته وزارة الثقافة المصرية بمناسبة مرور عشر سنوات على فوزه بجائزة نوبل ولم يتمكن من حضوره بسبب الاصابة الناتجة عن محاولة اغتياله. وأرسل كلمة تلخص رؤيته لجائزة نوبل ولمستقبل الادب قال فيها "ان جائزة نوبل في العلوم أكثر عدلا منها في الادب لان لغة العلم لغة عالمية تصل للجميع بسرعة والمؤكد أن هناك الكثيرين في مجال الادب ممن يستحقون نوبل ولم يحصلوا عليها لان أعمالهم لم تترجم بعد بينما كل نظرية علمية تكتشف تترجم فورا الى لغات متعددة وتصل الى أربعة أركان المعمورة". وأوضح أنه "ليس هناك تقريبا علماء مظلومون ولكن هناك أدباء كثيرين قد وقع الظلم عليهم". وأشار الى أنه رغم ازدهار الرواية أكثر من أي نوع أدبي اخر في العقود الاخيرة الا أنه يشفق على الادب كله "على فن الرواية وعلى غيرها من فنون الادب لانني أعرف ما يواجه الادباء من مصاعب وما يشهده الادب من تراجع أمام وسائط التكنولوجيا المتقدمة". وأضاف متمنيا للادب أن يقاوم "وأن يستكشف سبلا جديدة يفيد خلالها من الوسائط التكنولوجية المتقدمة ليصل الى أكبر دائرة من المتلقين ولست أظن أن هذه الوسائط المتقدمة يمكن أن تنفي الادب في يوم من الايام. فحتى الذين يبحثون الان في الانترنت يبحثون بالكتابة ويبحثون عن الكتابة ولعل كثيرين منهم يبحثون عن الادب".
وعمل محفوظ موظفا في وزارة الاوقاف الى أن بلغ الستين وخلال سنوات وظيفته تولى ادارة الرقابة على المصنفات الفنية ثم عمل مديرا عاما لمؤسسة دعم السينما عام 1960 ومستشارا للمؤسسة العامة للسينما والاذاعة والتلفزيون عام 1962 وعين رئيسا لمجلس ادارة المؤسسة العامة للسينما عام 1966 ثم أصبح مستشارا لوزير الثقافة لشؤون السينما عام 1968. وأحيل محفوظ الى المعاش في ديسمبر كانون الاول 1971 وواصل كتابة مقاله كل خميس بصحيفة الاهرام